الموروث من الحضارة المصرية القديمة في حياتنا المعاصرة

الموروث من الحضارة المصرية القديمة
الموروث من الحضارة المصرية القديمة في حياتنا المعاصرة
بقلم : أحمد عبد العال
إن الحديث عن الموروث يتطلب أن نشير في إيجاز إلى الظروف التي هيأت للإنسان المصري أن يبدع في أرضه، وأن يحقق هذه الريادة.
لقد حظيت مصر بحدود طبيعية آمنة، وصحراوات في الشرق والغرب، وبحر في الشمال، وجنادل تعترض مجرى نهر النيل في الجنوب، ومنحها الله مصدراً ثابتاً للمياه، وهو نهر النيل، وأرضاً منبسطة سهلت الاتصال بين المصريين بعضهم البعض، وبينهم وبين جيرانهم، ومناخاً معتدلاً حقق لهم الخير، وأشاع في نفوسهم البهجة والاطمئنان، وموقعاً متميزاً ربطهم بقارات الدنيا الثلاث الرئيسية.
كل هذه العوامل وغيرها جعلت من الإنسان المصري إنساناً متميزاً يملك من الإمكانات ما يجعله ينجز ويبدع، لتتبوأ مصر مكانتها المرموقة عبر العصور.
ونجح إنسان ما قبل التاريخ في مصر في شمال البلاد ووسطها وجنوبها في أن يضع اللبنات الأولى للإبداع المادي والفكري، وشكل أساسيات حياته، فأوقد النار، واستأنس الحيوان، وعرف الزراعة. وما أن تحقق له الاستقرار، وبدأ حينئذ يتوجه بنظرة المتأمل إلى الطبيعة الكونية، ومظاهرها الموحية، لاسيما دورة الموجودات بين الولادة والحياة والممات والبعث. وبقدرته على الملاحظة واستقراء الأمور، أدرك الإنسان المصري أنه لابد وأن يمر بنفس الدورة، يعيش لفترة مؤقتة، ويموت لفترة مؤقتة، ثم يبعث من جديد إلى أبد الآبدين. ومن هنا كانت البداية، بداية تلك الكلمتين السحريتين اللتين غلفتا الحضارة المصرية بقوة الدفع والإبداع، ألا وهما: البعث والخلود.
وهكذا فالمصري القديم إنسان آمن بأنه يحيا ويبدع وينجز لكي يتحقق له كل ما يتمناه في عالم بلا فناء، وهو عالم الخلود.
وهكذا هذا شمر الإنسان المصري عن ساعديه، وأعمل العقل والفكر، وبدأ مسيرة الإبداع.
وكانت البداية في التفكير في القوى التي تحرك هذا الكون، ومن الذي خلق هذا الكون وما فيه من كائنات. فاتخذ لنفسه آلهة وإلهات، ولأنه لم يكن يستطيع أن يحدد ماهية هذه الآلهة، فقد اختار لها رموزاً آدمية أو حيوانية، أو طيوراً أو غيرها، إذ رأى أن بها خصائص تلك الآلهة التي فكر في عبادتها.
وخطا خطواته الأولى نحو الفن، وبدأ يضع ضوابط المدارس الفنية في النحت والنقش والرسم، وفعل الشيء نفسه بالنسبة للزراعة والصناعات الحرفية، والإدارة وتقاليد الملكية، بعدما توحدت البلاد على يد مجموعة من القادة، من بينهم نعرمر وعحا.
وتوج المصري إبداعاته بمعرفته للكتابة التي جعلت مصر من أسبق شعوب الأرض في هذا المجال. ولم يكتف المصري بخط واحد هو الخط الهيروغليفي، وإنما توج فكره ومنح مصر خطوطاً أخرى، هي: الهيراطيقي، والديموطيقي، والقبطي. وعاشت اللغة المصرية أطول فترة في تاريخ لغات العالم القديم. ولا تزال تعيش بين ظهرانينا في أسماء بلدنا ومدننا وقرانا، بل وفي لغتنا الفصحى والعامية.
ومن العلامات البارزة على الطريق توصُّل المصري لصناعة الورق من نبات البردي، لينتقل من مرحلة الكتابة على الحجر إلى الكتابة على مادة سهلة خفيفة الحمل، وليلعب البردي دوراً كبيراً في نقل الإبداع عبر الأرض المصرية في سهولة ويسر، ولنقل الثقافة المصرية خارج أرض مصر. ويتابع المصري مسيرة الإبداع في العمارة والهندسة والفلك والطب والكيمياء والجيولوجيا، وتفوق على نفسه في هذه العلوم من خلال الشواهد التي تمثل علامات بارزة على طريق الحضارة المصرية القديمة.
ونقف جميعاً مبهورين أمام رأس عجائب الدنيا السبع (الهرم الأكبر)، من حيث دقة الزوايا وأسلوب البناء. ويظل الهرم شامخاً معبراً عن فكر هندسي ومعماري متميز، وعن عقيدة واضحة، ملهماً لكل الأجيال، ومذكراً لنا نحن الأحفاد بعظمة الأجداد، وضارباً بعرض الحائط كل دعاوى الحاقدين على الحضارة المصرية، والمتشككين في مصرية هذا الإعجاز الذي نشتم فيه فكر وجهد وعرق المهندس والمعماري والعامل المصري.
ويسبق المصريون غيرهم في معرفة فنون الكتابة، ولاسيما بعد التوصل إلى صناعة الورق من نبات البردي. وفي مجال الأدب خلفوا الكثير من الروائع في مجال الحكم والنصائح والأناشيد التى كانت مصدر إلهام فى الآداب الشرقية القديمة، فالصلة بين نشيد اخناتون والمزمور 104 من مزامير النبي داود ما زالت ماثلةً أمامنا. وحكم "آمون إم أوبت" كانت مصدراً لسفر الأمثال. وليس هذا فحسب، بل كان للمصريين الريادة في الفنون، فأثروا فنون المسرح والموسيقى في بلاد اليونان وغيرها.
وبنظرة فاحصة على إبداعات الأجداد، والربط بينها وبين الكثير من الجوانب في حياتنا المعاصرة فلسوف يتأكد لنا التواصل بين الماضي والحاضر من خلال الاسماء التي أطلقت على بلدنا، والسمات الأساسية للشخصية المصرية، وفي الشهور الزراعية (القمرية أو القبطية)، وفي لغتنا العربية الفصحى والعامية، وفي اسماء العديد من مدننا وقرانا، وفي بعض أمثالنا الشعبية، وفي الكثير من عاداتنا وتقاليدنا.
ولعل دلالة عمق جذور إبداعات الإنسان المصري القديم، أن هذه الإبداعات لا تزال حية قائمة بيننا، نمارسها في حياتنا اليومية رغم تباعد الأزمان.
والحديث عن الشخصية المصرية القديمة يتطلب أن نشير في عجالة إلى العوامل الأساسية التي لعبت دوراً أساسيا في تشكيل هذه الشخصية، فالموقع الجغرافي الذي جعل مصر تنفتح على العالم القديم، والأرض المنبسطة التي سهلت الاتصال بين أبناء مصر وازالت الحواجز الثقافية واللغوية، ونهر النيل شريان الحياة الذي يخترق البلاد من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، والذي حقق للإنسان المصري الأمان والاستقرار، والمناخ المعتدل على امتداد فصول العام، والانتماء العميق لأرض مصر والتدين الفطري، كل هذه العوامل وغيرها جعلت الشخصية المصرية ودودة، بسيطة، منتمية لأرضها، واثقة من نفسها، معطاءة، متفتحة إلى حد كبير، تميل إلى المبادرة، وعابدة بعمق بلا تطرف..
هكذا كانت نظرة الشعب المصري القديم لنفسه، فهو شعب الشمس، الشعب النبيل، شعب السماء، شعب الإله، خلق من دمع العين على عكس الشعوب الأخرى، يجرى نيلهم في الاتجاه الصحيح (من الجنوب إلى الشمال)، أما الأنهار الأخرى فهي الأنهار المعكوسة.وهم أصحاب الأرض المنبسطة وغيرهم أصحاب الأرض الوعرة.
أن شعباً تأصلت فيه مثل هذه الصفات، كان لابد أن يشكل لنفسه تقاليد ومبادئ ثابتة ظل يحافظ عليها طوال الزمان، وورثها عنه الأحفاد. وإذا كانت الشخصية المصرية المعاصرة قد ورثت الكثير من السمات الشخصية للأجداد، فقد ورثنا من الأجداد الأسماء المختلفة التي أطلقت على بلدنا.
عرفت مصر عبر العصور بمجموعة من المسميات عبرت عن طبيعة أرضها وعن وضعها الجغرافي. ويمكن تقسيم هذه المسميات إلى ثلاث مجموعات (حسب التسلسل الزمني لظهور هذه المسميات).
أما المجموعة الأولى، فهي تلك التي أطلقها المصري القديم، إما على مصر كلها، أو على جزء منها- منذ أقدم العصور، فقد أطلق عليها اسم (كمت)، أي: الأرض السوداء، أو: الأرض الخصبة، أو إشارةً إلى ذلك الشريط الضيق من وادي النيل، والذي كان المصري يزرع فيه منذ عرف الزراعة. وأطلق عليها كذلك كلمة: (دشرت)، أي: الأرض الحمراء، أو: الأرض الصحراية، إشارةً إلى المساحة الأكبر من أرض مصر التي تمثل أرضاً صحراوية. وأسماها: (تاوي)، أي: الأرضين، إشارة إلى الإقليمين الرئيسيين في مصر (جنوب البلاد وشمالها) أي: الصعيد والدلتا. وأسماها أيضاً: "إيدبوي"، أي: "الضفتين"، إشارة إلى الضفتين الشرقية والغربية لنهر النيل، حيث كان النهر يفصل في معظم الأحيان بين مدينة الأحياء (التي كانت غالباً في الشرق)، ومدينة الأموات (التي كانت في أغلب الأحوال في الغرب)، حيث الأرض الصحراوية الجافة التي تساعد على حفظ أجساد الموتي. هذا بالإضافة إلى دور النيل المؤثر في حياة المصريين.
 
ومن بين الأسماء كذلك: (تامحو)، أي: "أرض الشمال"، إشارةً إلى الدلتا، و: (تاشمعو)، أي: "أرض الجنوب"، إشارة إلى جنوب البلاد. ثم أطلق عليها (تامري)، أي: "أرض الغرين" تعبيراً عن الأرض الخصبة التي تدر عليه الخير.
ومن بين كل هذه الأسماء كان أكثر الأسماء قرباً إلى قلب وعقل المصري القديم اسم "كمت"، ومن ثم فقد كان الأكثر استخداماً للإشارة إلى البلد كلها، وظل مستخدماً طوال العصور المصرية القديمة، الأمر الذي يؤكد ارتباط وانتماء المصري بذلك الجزء من أرض مصر، والذي عليه نشأت وازدهرت الحضارة المصرية القديمة.
وأما المجموعة الثانية، فهي التي عرفت في وقت لاحق للمجموعة الأولي، وغالباً في الدولة الحديثة، ويأتي على رأس مسميات هذه المجموعة اسم (حت-كا-بتاح)، والذي هو في الأصل اسم لأحد أشهر معابد الإله بتاح في مدينة منف: (ميت رهينة حالياً- مركز البدرشين- محافظة الجيزة)، والذي أقيم في الدولة الحديثة، ولا تزال أطلاله باقية حتى الآن، ويعنى "مقر قرين (الإله) بتاح".
والظاهر أن المصري قد استخدم هذا الاسم الخاص بأهم معبد في أهم وأقدم عاصمة مصرية، لأهم الآلهة في مصر القديمة، ليطلقه على مصر كلها. وليس بغريب إطلاق الجزء على الكل، فكلمة (منف) مشتقة من "من-نفر"، أي: "ثابت وجميل". وهو اسم هرم الملك ببي الأول في سقارة القبلية، أي أن المدينة قد اتخذت اسمها من اسم الهرم الخاص بهذا الملك.
ومنذ القرن التاسع قبل الميلاد تقريباً، وفي إحدى ملحمتي الشاعر الإغريقي "هوميروس"، وهي "الأوديسيا"، ظهر اسم "ايجوبتس" مشيراً إلى مصر. وبدراسة هذا الاسم اتضح أنه مشتق من الاسم المصري القديم: "حت-كا-بتاح". والواضح أن اليونانيين قد وجدوا صعوبة في نطاق حرف الحاء في بداية ونهاية الكلمة، وأنهم استبدلوا الجيم بحرف الكاف، وهذا الإبدال قائم في اللغات القديمة والحديثة. وهكذا أصبحوا ينطقون الاسم "ايجوبت"، ثم أضافوا إليه (كما هو الحال بالنسبة لاسماء الأعلام) في نهاية الكلمة حرف "س"، مسبوقاً بحرف من حروف الحركة، ليصبح "إيجوبتس". وليس ببعيد عن الأذهان أن اسم "خوفو" نطقه اليوناني "كيوبس"، وأن اسم "سنوسرت"، نطقوه "سيزوستريس" وأن اسم "أمنحتب" نطقوه "أمنوفيس"، وهكذا.
ومن النطق اليوناني للاسم "إيجوبتس"، اشتقت اللغات الأوروبية الحديثة الكلمة الدالة على مصر، مثل Egypt، ومن كلمة "إيجوبتس" أيضاً جاءت النسبة "إيجوبتي"، أي: "مصري"، أو: "المواطن" الذي يعيش في إيجوبتس، وذلك باستخدام "ياء النسب" كما هو الحال في اللغة العربية، مثل مصر ومصري، وإسكنرية وسكندري، وأسوان وأسواني ... الخ.
وتقابل كلمة "إيجوبتي" الكملة الإنجليزية (Egyptian)، وما يقابلها في اللغات الأوروبية الأخرى. وعندما فتح المسلمون مصر وجد العرب صعوبة في نطق "إيجوبتي"، إشارة إلى المواطن المصري، فنطقوها "إيقوبطي" و "قبطي"، الأمر الذي يعني أن كلمة قبطي كما ذكرنا تعني "المواطن المصري"، وإن كان قد استخدمها البعض للإشارة إلى مسيحيي مصر، تمييزاً لهم عن المسيحيين في أي مكان آخر. إذن فالقبطي هو المصري، سواء كان يدين بالمسيحية أو بالإسلام.
أما المجموعة الثالثة، فيقف على رأسها الاسم الذي تعرف به مصر حتى يومنا هذا، وهو "مصر"، ذلك الاسم الذي ورد في القرآن الكريم وفي التوراة. والشائع أن كلمة "مصر" كلمة عربية تعني "قطر"، وتجمع على أمصار. ورأى أصحاب هذا الرأي أن المسمى عربي على أساس وروده في القرآن الكريم، وأن المسلمين كانوا يطلقون على كل بلد يفتحونها "مصر". ولما كان من الواضح أنه ليس هناك من بلد إسلامي آخر أطلق عليه هذا الاسم أو احتفظ به، فإن هذا الاسم يخص مصر وحدها. ولقد ورد هذا الاسم في الكثير من اللغات في بلدان الشرق الأدنى القديم بحروفه الساكنة كما هي. فمنذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد وردت في اللغات الأكدية والآشورية والبابلية والفينيقية والعربية القديمة، والعبرية، مسميات مصر على النحو التالي: مصري، مشر، مصر، مصور، مصرو، مصرايم.... الخ.
وبدراسة الاشتقاق اللغوي لهذا الاسم، إتضح حتى الآن أنه مصري قديم لا عربي، فهو مشتق فيما يبدو من "مجر" أو "مشر"، وتعني "المكنون"، أو "المحصن"، وهو مسمي يعبَّر عن أن مصر قد حباها الله بحدود طبيعية آمنة، صحراء في الشرق وفي الغرب، وبحر في الشمال، وجنادل في الجنوب. فهي "كنانة الله في أرضه"، وهي: "المحروسة" كما يطلق عليها دائماً. وأما عن الإبدال بين حروف الجيم والشين والصاد فهو قائم، فكلمة "جبع" في اللغة المصرية القديمة هي "صبع" في اللغة العربية، ومدينة "جعن" هي "صان الحجر" الآن، وكلمة "وج" هي "وصى"، و "شن" هي "سأل" ...الخ.
وهكذا يمكن القول أن كل الأسماء التى أطلقت على بلدنا ترجع في أصولها إلى اللغة المصرية القديمة.
__________________________
المرجع
1)    د. عبد الحليم نور الدين :- اللغة المصرية القديمة ، الطبعة الثامة ، 2008.