آخر أيام صلاح الدين

آخر أيام صلاح الدين
اخر ايام صلاح الدين !!
للمؤرخ - ابن شداد -

ولما كانت ليلة السبت وجد السلطان كسلًا عظيمًا وما انتصف الليل حتى غشيته حمى صفراوية وكانت في باطنه أكثر مما في ظاهره. وأصبح يوم السبت متكسلًا عليه أثر الحمى.ولم يظهر ذلك للناس لكن حضرت عنده أنا
- ابن شداد- والقاضي الفاضل فدخل ولده الملك الأفضل وطال جلوسنا عنده وأخذ يشكو قلقه بالليل وطاب له الحديث إلى وقت الظهر ثم انصرفنا وقلوبنا عنده فتقدم إلينا بالحضور على الطعام في خدمة ولده الأفضل ولم يكن للقاضي الفاضل في ذلك عادة فانصرف - ودخلت إلى الإيوان القبلي وقد مد السماط وابنه الملك الأفضل قد جلس موضعه فانصرفت وما كانت لي قوة للجلوس استيحاشًا له. وبكى في ذلك اليوم جماعة تفاؤلًا بجلوس ولده الأفضل موضعه.

ثم أخذ المرض يتزايد به من حينئذ ونحن نلازم التردد له طرفي النهار وكان من أمارات انتهاء العمر غيبة طبيبه الذي كان قد عرف مزاجه سفرًا وحضرًا ورأى الأطباء فصده فقصدوه في الرابع فاشتد مرضه وقلت رطوبات بدنه وكان يغلب على مزاجه اليبس فلم يزل المرض يتزايد به حتى انتهى إلى غاية الضعف.


واشتد مرضه في السادس والسابع والثامن ولم يزل يتزايد ويغيب فإنه ولما كان التاسع حدثت له غشية وامتنع من تناول المشروب واشتد الخوف في البلد وخاف الناس ونقلوا أقمشتهم من الأسواق وعلا الناس من الكآبة والحزن ما لا يمكن حكايته. ولما كان اليوم العاشر من مرضه أيس منه الأطباء.ثم شرع ولده الملك الأفضل في تحليف الناس له.


ثم إنه توفي - إلى رحمة الله تعالى - بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة.

وكان يوم موته يومًا لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله بعد فقد الخلفاء الراشدين - رضى الله عنهم - وغشي القلعة والملك والدنيا وحشة لا يعلمها إلا الله تعالى.
وبالله لقد كنت أسمع من الناس أنهم يتمنون فداء من يعز عليهم بنفوسهم وكنت أتوهم أن هذا على ضرب من التجوز والترخص إلى ذلك اليوم فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفدي بالأنفس.

ثم جلس ولده الملك الأفضل للعزاء وغسله أبو القاسم ضياء الدين عبد الملك بن زيد الدولعي خطيب دمشق وأخرج تابوت السلطان - رحمه الله تعالى - بعد صلاة الظهر مسبحي بثوب فوط فارتفعت الأصوات عند مشاهدته وعظم الضجيج وأخذ الناس في البكاء والعويل وصلوا عليه أرسالًا ثم أعيد إلى داره التي في البستان وهي التي كان متمرضًا بها ودفن في الصفة الغربية منها. وكان نزوله في حفرته قريبًا من صلاة العصر.


ثم ذكر ابن شداد أنه مات ولم يخلف في خزائنه من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهمًا ناصرية وجرمًا واحدًا ذهبًا صوريًا ولم يخلف ملكًا ولا دارًا ولا عقارًا ولا بستانًا ولا قرية ولا مزرعة. وفي ساعة موته كتب القاضي الفاضل إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب بطاقة مضمونها: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ".

إن زلزلة الساعة شيء عظيم ".

واستمر السلطان صلاح الدين مدفونًا بقلعة دمشق إلى أن بنيت له قبة شمالي الكلاسة التي هي شمالي جامع دمشق ولها بابان أحدهما إلى الكلاسة والآخر في زقاق غير نافذ وهو مجاور المدرسة العزيزية. ثم نقل من مدفنه بالقلعة إلى هذه القبة في يوم عاشوراء في يوم الخميس من سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة.

ثم إن ولده الملك العزيز عثمان لما ملك دمشق من أخيه الملك الأفضل بنى إلى جانب هذه القبة المدرسة العزيزية.

-------------------------- ( اثار مصر ) -----------------------------