المكتبة

محافل مميزه

الارشيف

لمتابعة جديد الموقع

البريد الإلكتروني " الإيميل "

النوبة خلال العصر العتیق

النوبة خلال العصر العتیق
العصر العتیق
على مدى ضفاف النیل النوبى، يمكننا أن نتكشف، بین الرسوم السريعة المختصرة والكتابات التى ترجع إلى مختلف العصور، بعض النقوش التى رسمھا البشر فى أزمنة ما قبل التاريخ. إنھا جمیعا تتناول الأشكال الحیوانیة، كمثل : الزراف، والأفیال، والنعام، والغزلان، والتیاتل والوعول. ولاشك أن أجمل الأمثلة ضمن الكثیر غیره، كان يرى بالمناطق المتاخمة لمعبد "وادى السبوع": وقد رسم فوق جانب إحدى الصخور التى اتخذت كواجھة لمأوى أسفل الجبل، قبل عصرنا الحالى بحوالى ستة آلاف أو سبعة آلاف عام. ويلاحظ، فى ھذا المجال، أن البقريات نادرا ما كانت تمثل. ومع ذلك، فقد صورت من خلال نقش متمیز للغاية، يزين أعماق أحد الكھوف؛ ذات فتحة متسعة: إنھا لا تقع على ضفاف النیل، بل بداخل البلد نفسھا. وقد أكتشفت حديثا . والنقش يصور عرضا لعدد من البقريات؛ متجھة جمیعھا نحو اتجاه واحد. وھى تتراءى فى وضع التوقف : وملونة .
 
ويلفت الأنظار أن أغلبیة الأبقار ھذه، ذات جلد مبرقش (بالأبیض، والعاجى، والأسود). إنه حقا زخارف فريدة من نوعھا ومتفردة للغاية فى نطاق النوبة . وقد اكتشفت بمنطقة لا تبعد كثیرا عن نقطة إنطلاق القوافل التى تستھل مسیرتھا بداية من جنوب "كوروسكو "، لكى تتفادى الاقتراب من الانعطاف الحاد بنھر النیل: ثم، بعد ذلك، تنطلق عبر النھر عند السودان، على مقربة من "أبو حمید".

عصر ما قبل التاريخ

إن مصر والنوبة بلدان متجاوران. وھما يرتويان من نفس النھر . ومع ذلك، فإنھما، لم يمرا، منذ بدء العصور، بتطور مشترك وعام. وبالرغم من ذلك، فإن ھاتین المنطقتین، كانتا على معرفة ببعضھما بعضا. ولاشك أن ھذا أمرا محتما، ولا مناص منه : فإن الفیضان، ينھمر كل عام، لیغطى أراضى مصر؛ منسابا بداية من المناطق القائمة بأقصى الجنوب، التى تصدر المنتجات الثمینة النادرة: بل ھو يعبر، فى طريقه، بلاد "واوات"، قبل وصوله إلى أرض الفراعنة المقبلة.
 
وھكذا، منذ العصور الممعنة فى القدم، كانت العلاقات بین كل من مصر والنوبة، أكثر، وأقوى مما نتصور. قطعا، إن المصريین قد استطاعوا الاقتراب من مظاھر الحضارة التى أمدتھم بقدر من إرث بعض أسلافھم الموغلین فى القدم ھو السؤال الذى يجب أن نطرحه على أنفسنا أمام الاكتشاف المدھش غیر المسبوق الذى أنجزه عالم المصريات "كیث ستیل"، بجامعة شیكاغو، فى جبانة قستل جنوب شرق "أبو سمبل"، على ضفة النیل الشرقیة.
 
إنھا مقبرة نوبیة ترجع إلى أواخر عصر ما قبل الأسرات . أى حوالى أربعة آلاف عام قبل المیلاد. إنھا كمثیلاتھا، من المقابر الأخرى المحیطة بھا، فھى تتمیز بمقايیس كبرى قد تفوق تلك الخاصة بالفراعنة الذين دفنوا فى أبیدوس وتفصح الكثیر من مقابر ھذه الجبانة عن مستوى تطور وارتقاء أصحابھا. إنھا تفوق فى ذلك نظیرتھا التى تضم مقابر بعض المصريین بشمال الشلال الأول . وبالفعل، نجد أن إحدى ھذه المقابر (النوبیة)، كانت ما تزال تضم جثمان المتوفى: وقد أحاط عنقه عقد يتكون من ستین خرزة ذھبیة وحلیة على ھیئة ذبابة من الذھب أيضا. وضمن الآثار المتناثرة فوق الأرض، حیث عثر على 5528  قطعة زينة، سواء الكاملة الإبداع، أو التى لم تكمل بعد، قد جعلت المنقبین يخلعون على ھذه المقبرة اسم: "مقبرة الجواھرجى". كما بینت بعض القبور الأخرى أيضا، من خلال زخرفة أثاثھا الجنازى، عن تأثرھا بحضارة بلاد "ما بین النھرين". فھا ھو، على سبیل المثال، وعاء من الحجر الوردى، قد مُثل فوقه، ضمن الكثیر غیرھا من الرسوم الملونة شكلان لزرافتین متجابھتین من كلا جانبى شجرة نخیل. وھذا الموضوع نفسه، تم معالجته فوق لوحة الزراف المصرية، القائمة حالیا بمتحف اللوفر. وتجدر الإشارة أيضا إلى إناء آخر كبیر، زين بمنظر ملون بالألوان، يعبر عن فناء معبد أحیط بالأوتاد، وبجواره بدت شجرة "اللبخ " تتمسح بھا إحدى العنزات . ونحو ھذه الأخیرة يتجه تمساح ضخم. وعلى مقربة، يشاھد ثعبانان ضخمان تھاجمھما بعض الطیور الكاسرة .. فھا ھنا قطعا، مشھد له مغزى وقائى لا يخفى مضمونه على أحد وفیما يتعلق بأكبر المقابر مساحة ( 20 × 2متر)، فكانت تحوى جثمان، أعتقد عالم المصريات "ك. ستیل"، إنھا قد تكون لأحد الملوك. يبدو راقداً فوق مخدع خشبى، مرصع برقائق النحاس . كما يحمل مذبة كمثرية الشكل. وھى مصنوعة من الحجر. وتسلح أيضا بحربة ذات حد نحاسى 

وعاء من "قسطول"
أحیط عنق ھذا الوعاء بكم كبیر من المجوھرات (بالرغم من أعمال السلب والنھب فى الأزمنة الغابرة). وحول عنقه تدلى عقد طويل من الخرز الأسطوانى الشكل المصاغ من الذھب، والعقیق والخزف المطلى. وضمن "لوحات مواد الزينة" المنحوتة من الشست، عثر على لوحة رائعة من الكوارتزيت الوردى اللون. وحولھا عدد ھائل من الأوانى الفخارية التى ترجع لأسرة من "جرزة "؛ ودعامة لحمل جرة شرقیة الطراز. وعلى الأرض، شوھدت قطع كثیرة متناثرة من الحجر الجیرى .
 
وبعد أن تم جمعھا وتعشیقھا ببعضھا بعضا بكل دقة ومھارة؛ تبین من خلالھا: إناء للتبخیر، مستدير الشكل، مزين بنقوش "غائرة" (لم تكن معروفة عندئذ فى تلك الحقبة )، لمشھد يثیر الدھشة والعجب، سواء من ناحیة الموقع الذى عثر علیه به، أ وتاريخه المفترض!! وعاء للتبخیر، محطم إلى عدة أجزاء، أكتشف بجبانة "قسطل"، تعمل زخرفته على الوقاية من الشر.
 
لقد استطاع المنقب سعید الحظ ومعاونوه أن يعید تنظیم الزخرفة، التى على ما يبدو، تجسد موكبا نیلیاً، يتكون من ثلاث مراكب. ويتبین أن ھذه المراكب الضخمة كانت منذ تلك الحقبة، من الخشب، ولیس من البردى.  وألحق بھا سارى وشراع. ويتراءى أنھا تتوجه ناحیة "واجھة ذات بروز مسننة" لأحد المعابد : إنھا تجسید مسبق للجدار الذى كان يحیط بمدينة ھیراكونبولیس التلیدة؛ (بشمال "الشلال الأول"): التى ترجع إلى عصر الأسرة الأولى. ولعلنا نعرف أن ھذا الطراز المعمارى، المتمیز بالبروزات والسنون البارزة، قد انتشر طوال عصر الأسرات الفرعونیة من الیمین إلى الیسار، تتقدم السفن بمحاذاة جرف نھرى؛ عُبر عنه من خلال مكان كثیف النباتات. 

ومع ذلك، لم يصور الفنان میاه النھر. ولكن، بدت واضحة أسفل مقدمة المركب الأول، بعض أغصان الشجر. بل نتبین أيضا، آثار كابینة صغیرة، وساريا، وشراعا . وكذلك، نلمح رجلا واقفا، فى وضع مصرى صمیم: وربما يكون ھذا الشخص قبطان السفینة شخصیا. أما عند مؤخرة ھذا المركب الكبیر، فتشاھد زخرفة بديعة تمثل تمساحا: يؤكد حتما، إذا اقتضى الأمر أننا ھنا بین أجواء نھر النیل. أما فیما يختص بالمركب الثانى، فقد ھشم رسمھا تماما. لدرجة لا تسمح بوصفھا ھنا . ومع ذلك، نلمح، من خلالھا قمة التاج الملكى الأبیض، وشكلا أفقیا للصقر العريق القدم . بعد ذلك مباشرة، نرى ما وصفه "ك. ستیل" بأنه مجرد وتد لربط المركب عند رسوھا . وبجواره تماما رسم وعل ذكرى المظھر منتصب على قدمیه الخلفیتین، وكأنه يھم بقضم الأغصان التى تعتلیه: قد يكون ذلك مستوحى من أسلوب زخرفى دارج، أسیوى النمط.
 
وأمام الوعل، ھاھو شخص ما يتجه نحو المركب الثالثة . وواضح جدا أنه اقل حجما من الوعل نفسه. نراه إذن، وھو يرفع ذراعه وكأنه يوجه تحیته إلى المركب الذى يمضى نحوه. إن شكله عامة، ينم عن الھیئة التى أصبحت دارجة وتقلیدية للغاية، على مدى الحضارة الفرعونیة كاملة !.. ويلاحظ أيضا أن خصره قد أحیط بحزام عريض يتدلى عند مقدمة مئزره .. ولكنه غیر متوج! الآن، ترى المركب الثالثة. إن طرازھا لا يختلف عن ذاك السائد فى مجال مراكب بلاد "ما بین النھرين". حیث يلا حظ أن المقدمة فائقة الارتفاع . أما المؤخرة، فھى تعلو فى ھیئة زاوية قائمة.

وأسفل المقدمة، نلمح أحد الأفرع النباتیة، نقش أسفلھا شكل يمثل سمكة ضخمة من أسماك النیل. ونجد أن متن ھذا المركب قد احتله تماما حیوان ھائل رباعى الأرجل، مرفوع الذيل؛ ذو لبدة ضخمة كثیفة، مدبب الأذنین إلى حد ما؛ وقد بدت بكل وضوح أصابع قوائمه!!.. قطعا، إن شكله عامة، يؤكد أنه: من فصیلة القرود. وقد يبدو وجود قرد، بمثل ھذا الحجم الھائل وھذا الوضع، فوق ظھر سفینة، غیر اعتیادى أو مألوف تماما . بل ولم يوجد له مثیل عندئذ، بالمواقع العريقة فى أبیدوس أو ھیراكونبولیس، أو حتى بالمعبد البدئى الأولى فى جزيرة "إلفنتین ". 

فعلینا ملاحظة أن عدد كبیر من أشكال ورسوم القرود الافريقیة الطويلة الذيل، قد عثر علیھا فى ذاك الموقع الأخیر: وجمیعھا ترجع إلى عصر ما قبل التاريخ. وإلى كل ھذه الأدلة، يجدر بنا أن نض یف: تمثالا لقرد، يحمل اسم الملك "نعرمر" بالأسرة الأولى محفوظ حالیا بمتحف برلین.
 
على ما يُعتقد إذن، أن القرد الذى أضفى مظھره الحیوانى، خلال العصور الفرعونیة كلھا، على "تحوت": الذى يجسد، عن جدارة: الذكاء، والعلم، والتقويم .. ھذا الحیوان، كان على صلة قوية بالنیل، ووصول الفیضان . ويجدر بنا أن نعرف أيضا : أن الطقوس الخاصة بالإله "تحوت " ذو مظھر القرد، ترجع إلى أوائل التاريخ المصرى : فھو رب ھرموبولیس المھیمن علیھا . وأول أسماؤه
ھو: "حج ور" أى: "القرد العظیم الأبیض اللون فى نھاية الأمر، ربما أن حديثنا المسھب ھذا كان ضروريا للغاية: لكى نبین الأھمیة الفائقة التى يمثلھا وعاء التبخیر الصغیر ھذا المشار إلیه آنفا . خاصة أن زخرفته تبدو متفردة وغیر دارجة تماما: فى إطار وأجواء متاخمة قطعا لنھر النیل (نباتات، تمساح، أسماك .. وأشخاص )، تصور لنا مراكب وواجھة مبنى، ووعل واقف على قائمتیه الخلفیتین (حضارة بلاد ما بین النھرين ). وربما، إذا عملنا على تنحیة العنصر المعمارى جانبا، فإننا سنجد أن ثلاثة عناصر قد شوھدت فوق أدلة فنیة أخرى، معاصرة، فى مصر. ألا وھى: سكین "جبل العرق "، ولوحة الزرافات (بمتحف اللوفر ) ولوحة "نعرمر" (بالمتحف المصرى بالقاھرة).
 
إن المبنى ذو البروزات المسننة، ربما قد يكون جدار محیط لمعبد ما . إنه قطعا التصوير الوحید المعروف، فى النوبة الغابرة .. الذى يمثل أھمیة معمارية محلیة. إن الموضوع الأساسى - أو الممثل الرئیسى – الذى يرتبط به كل ما حوله، ھو بدون شك "القرد" الضخم: الذى تُكرس، بلا أدنى شك الطقوس من أجله . إذن، والحال ھكذا، فھا ھى ھذه الزخارف، تقدم لنا دلیلا جديدا على العلاقة والصلة ما بین أرض وادى النیل وبلاد ما بین النھرين إبان العصور العتیقة!.. وربما أن ھذا الاتصال، فى وقت ما، عن طريق البحر الأحمر، من خلال البلد الأسطورى الجمال "بونت" حیث انبثق "القرد" المقدس، "رب" وتجسید الفیضان الذى يثريه ويخصبه نھر"عطبرة"!!.. فمن المؤكد إذن، أن ھذه القطعة الأثرية تقدم معلومات ھائلة . فھى، على سبیل المثال أيضا، تحیطنا علما بأن زعیم المنطقة، الذى دفن فى المقبرة حیث ع ثر على وعاء البخور ھذا، كان يتماثل بزعماء "العشائر" المصريین، الذين سادوا فى الفترة السابقة للفراعنة الأوائل : وھذه الفترة نفسھا أطلق علیھا علماء المصريات اسم: "حضارة جرزة". فلا شك إذن أن زخرفة ھذه القطعة الأثرية الفنیة تومئ إلى جذور وأصول ھذا الحاكم نفسه .. فھل عساه كان يسود على فئة عرقیة تماثله، أجنبیة المنبت: وأشارت إلیھا زخارف ھذا الأثر؟ !.. وھذه الأعراق نفسھا، ھل تراھا اتجھت وتنقلت فیما بعد، حتى وصلت إلى جنوب مصر؟!.. وھناك تمركزت واستقرت بكل تقالیدھا وعاداتھا .. وأسالیب زخرفتھا؟!.. ربما!! ولكن تجدر الإشارة إلى ما يلى: فى كافة أنحاء الأراضى النوبیة، لم تبین أية آثار عن وجود فئة بشرية ما، ترتبط بأسلوب التعبیر ذلك المصور حول حافة وعاء التبخیر المشار إلیه !!.. إذن، لماذا قامت ھذه الفئة بالھجرة إلى ما وراء الشلال الأول فى مصر؟!!.. ولماذا قامت بذلك، لتترك خلفھا أعراقا أخرى أقل تقدما وتطورا: يقومون، بدورھم باستقبال حملات الفراعنة الأوائل: بداية من أوائل الأسرة الأولى: حیث، أكدت بعض الأسماء الملكیة، المنحوتة فوق عدة صخور نوبیة، عن مرور ھؤلاء الملوك الفراعنة ھناك.

إشتـرك يصــلك كل جديــد:
*ستصلك رساله على ايميلك فيها رابط التفعيل برجاء الضغط عليه حتى يكتمل اشتراكك*

تابعونا على الفيس بوك

قائمة متابعي الموقع

تعريب وتعديل: بلوجر بالعربي

Crown of Egypt "تاج مصر للتراث الفرعوني"