قائمة الروابط
محافل مميزه
الارشيف
لمتابعة جديد الموقع
الملك والجھات الأصلیة


الملك والجھات الأصلیة
ربما لا يعتبر التقسیم الرباعى للكون ضمن سمات الفكر المصرى القديم . ولكن، لا ريب أن تعدد استعمالاته وتطبیقاته، قد جعله بمثابة أحد العناصر الھامة فى إطار الحضارة الفرعونیة . فبداخل النظام الثقافى على سبیل المثال قد نقابل بعض الإيماءات التى توجد أيضا سواء فى نص التوراة، أو فى الديانة المسیحیة، بل وربما كذلك فى ممارسة بعض الطقوس المعاصرة. وتناسق مختلف الأمثلة فى ھیئة فئتین اثنتین: فمنھا التى تشیر إلى المخاطر التى قد تنجم أو تندفع من ناحیة الجھات الأصلیة بالأفق. ومنھا، على العكس، تضم الجھات الأصلیة بداخل سلطة ونفوذ موحد. وبصفة عامة، لا تنحصر كل واحدة من ھذه المفاھیم بعیدا عن الأخرى: لأن تلاقى وتماثل مصیر مختلف أجزاء العالم، يستلزم، فى بعض الأحیان؛ إفناء وتدمیر الكیان والوجود المعادى الذى قد يرتادھا.
وفى مصر، يبرز التخطیط الرباعى مساھمة قو ى الكون لتحقیق رخاء وسعادة ھذا البلد وسكانه. وربما أن ھذه المساھمة قد تتم تلقائیا، أو بالإرغام والقسر. ولكنھا فى نھاية الأمر، تتحقق بأى شكل من الأشكال. ولذا، قد نقابل، فى كثیر من الأحیان، بعض مظاھر المساھمة الإلھیة المكونة من أربعة أعضاء، لحماية البشر، فنرى أن أبناء حورس الأربعة ذوى راس آدمى، وصقر، وكلب وقرد، قد أعارت رؤوسھا وسماتھا لأغطیة الأوانى الكانوبیة التى تحوى أحشاء مومیاء المتوفى. بل ونطالع أيضا ھؤلاء الإلھات الجمیلات الأربع المذھبات اللاتى يحتضن بأذرعھن صندوق -مقصورة توت عنخ أمون (حوالى 1347 - 1228 ). وبتحديد أكثر: ھناك الصیغ الجنازية، التى تشیر إلى الجھات الأصلیة، وتحددھا من أجل الإيماء إلى مصدر الرياح الأربعة التى تستدعى لمساعدة المتوفى . وإبان العصر المتأخر، كانت جدران المعابد تزين بأشكال ورسوم للمردة الأربعة الذين يمثلون الرياح . وتبدو أشكالھم مركبة التكوين: رؤوس وسمات حیوانیة، ومنھا الرباعى الأرجل، والآخر ذو شكل مجنح. وعلى العكس، يلاحظ أن قمم الأعمدة الحتحورية الشكل، مكونة من أربعة وجوه متماثلة، وابتسامة متطابقة، وأذنى البقرة الممیزة لھذه الإلھة السماوية. إنھا تعبر، من خلال الأحجار الصماء عن السیادة الكونیة لحتحور . فھى كما وصفتھا إحدى التراتیل البطلمیة "ربة أركان السماء الأربعة: وملكة مصر العلیا وملكة مصر السفى، والشرق والغرب". ونفس ھذه الصفات استعادتھا الطقوس الدالة على السیطرة والسیادة عل العالم، التى يؤديھا الفرعون . وھا ھو، أمنحتب الثالث على سبیل المثال، وھو يفتخر ويزھو باتساع مدى فتوحاته ( 1402 - 1364 )، فیلخص انتصاراته بجھات العالم الأربع؛ "وھو يدير وجھه " على التوالى، نحو الجنوب، والشمال، والغرب، والشرق. ونلاحظ بصفة عامة، أن ترتیبھا يتطابق مع مبدأ الاتجاه المصرى: حیث الجنوب يسبق الشمال؛ والغرب، ناحیة الید الیمنى، وھو مكان الراحة الأبدية، وبالتالى، فھو يسبق الشرق، القائم بجھة الید الیسرى، أى ساحة الصراع الأولى بین ضیاء الشمس والظلمات.
وفیما يختص بالشعائر التى يؤديھا الملك من أجل الآلھة: علیه أن يردد أربع مرات بعض الصیغ والحركات الطقسیة، حتى يؤكد وجود النظام الإلھى فوق الأرض قاطبة وھیمنته على كافة مستوياتھا. إنه يبسط كفیه فوق مئزره؛ وھو يتعبد لمرات أربع فى الإله الذى يقف فى مواجھته . ومرة أخرى نراه وقد دفع أحد ذراعیه، وقد شھر صولجانه عالیا، ويؤدى، أربع مرات، المراسم الخاصة بتقديم القرابین الكبرى، اى الصناديق الأربعة . وفى آونة أخرى، يبدو الفرعون واقفا فوق المركب الإلھیة، ويقوم لمرات أربع بلمس المیاه بمجدافه، من اجل إحداث الدفعة اللازمة للتحرك. أما لكى يعمل على إنعاش النماء والازدھار الزراعى وتجديده بمصر، فھو يقدم أربع عجول، ذات جلد ممیز اللون : أبیض، وأحمر، واسود، ومبرقش، وقد أمسك بھا جمیعا بواسطة أحد الحبال. وحتى كل ھذه الأمثلة، لا يمكن أن تمثل قائمة شاملة مكتملة.
وعادة، تخضع المناطق الأصلیة لمراسم تنصیب الفرعون على العرش . ومن خلال المناظر التى تبرز مشاھد الطقوس الخاصة بتطھیر الفرعون، يشاھد إلھان وھما يسكبان المیاه المظھرة فوق رأس الملك. وربما قد يمثل ھذا الثنائى المكون من حورس تحوت معا، الرباط التقلیدى الذى يجمع ما بین ست وحورس. فھا مشھد مرموز قد حول عملا يقوم به أربعة آلھة عادة إلى مھمة يؤديھا اثنین فقط: "إن تطھیرك ھو تطھیر حورس، إن تطھیرك ھو تطھیر ست، إن تطھیرك ھو تطھیر تحوت، إن تطھیرك ھو تطھیر دون آنوى (أى: "الذى يبسط جناحیه"، الإله الصقر)". وتجسد كل من ھذه الآلھة على التوالى، الشمال، والجنوب، والغرب، والشرق . ونظرا لأن حورس يعتبر إله أسرى، فقد تحتم تصدره لتلك القائمة. وفى إطار العالم الآخر، تنبثق عملیة تبخیر الملك من صلاة مماثلة لتلك التى ذكرت آنفا وعند استھلال مراسم الاحتفالات الیوبیلیة، وفى المشھد الأول لظھور الملك، يبدو وقد جلس فوق عرش ذو أربع درجات. وقد حفر على كل درجة منھا، على التوالى، اسم أحد الجھات الأصلیة. ومن خلال احتفالات الإله "مین"، التى تحى بھا فى آن واحد، قوة ھذا الإله المخصبة وإعادة تدفق المقدرة الملكیة، يشاھد أحد الكھنة، وھو يقوم تنفیذا لأمر الفرعون، بإطلاق سراح أربعة طیور تمثل جمیعھا أبناء حورس. وتنحصر مھمتھا فى إعلان آلھة الجنوب والشمال، والغرب والشرق بأن: "حورس بن إيزيس وأوزيريس قد توج بالتاج الأبیض والتاج الأحمر "؛ وأن الملك رمسیس الثانى (أو رمسیس الثالث) "قد توج بالتاج الأبیض والتاج الحمر". أما فى العالم الآخر، فتقوم الآلھة بإعلان جھات مصر الأربع بالتحول الذى طرأ على الفرعون : "إنه الصقر العظیم يلتمس البقاء ويعبر السماء من خلال جھاته الأربع" (متون الأھرام، فصل 1777)
لقد عرفنا أن الملكیة الفرعونیة ترنو نحو السیطرة الكونیة. ولنفس ھذا السبب تجابھھا قوى متعددة وغیر مرئیة وغامضة.. ولعلنا نعرف أن ملك بريطانیا الجديد، لحظة تتويجه، يلتفت ناحیة الجھات الأصلیة، لكى يتأكد من عدم وجود أية معارضة أو مناوءة لصعوده على العرش. وعلى أرض مصر، ربما لم يكن تصرف الفرعون، فى تلك اللحظات مشابھا لذلك تماما؛ ولكنه، على أية حال، يحمل بعض بصمات العنف والضراوة البدئیة. فنجد أن الطقسة الدينیة التى يؤديھا الملك تلعب على وترين محددين: میثولوجى وتاريخى. والھدف الأساسى ھنا ھو: ان يدعم ويقوى المشھد الخاص بالصراع الدائم اللازم لبقاء التوازن الكونى، بواسطة إنعاش وتنشیط الأحوال القتالیة الأولیة للمؤسسة الفرعونیة، من خلال الممارسة القتالیة لدى الملك . أن النصر التام التى تحرزه الش مس كل يوم ينجم خاصة من دحرھا لكائنات رھیبة تتربص بھا، ويتفاقم شرھا خلال ساعات اللیل . وتقول بعض النصوص السحرية أن شفاء المرضى يتطابق ويتشابه بالانتصار الذى يحقق كوكب الشمس .
وھى تضیف قائلة بأن أعداء رع عددھم أربعة. وبذا، تتطلب بعض الصیغ السحرية "استدعاء ھذا الإله، من اجل إنقاذ ھذا الذى يعانى من الألم. مثلما أنقذت أنت من الأعداء الأربعة الذين أتوا لمھاجمتك ". وضمن وسائل تدمیر الأعداء التى أشیر إلیھا، يوجد: الإحراق الشعائرى لبض التماثیل الصغیرة، وھذا ما يبرره وجود موقد جمر، يمثل شكلا لأحد الأسرى المكبلین عن كل م ن الجھات الأصلیة . وھا ھو أمنحتب الثانى (نحو 1438 1412 ) وقد أسبغت علیه سمة التألق الشمسى؛ ويعتبر أيضا أحد أحفاد الأسلاف القناصین العظام. وھكذا، فھو يبدو وقد صوب سھامه الأربعة نحو الأھداف الأربعة التى تجسد القوة المعادية". عندئذ ظھر جلالته فوق عربته وكأنه إل ه الحرب فى قوته وجسارته . وأمسك بقوسه،ن وانتزع أربعة سھام مرة واحدة [.. ..] واخترق سھمه أھدافه ووصل إلى الركن التالى ".
ويلاحظ ھنا أن مدى مقدرة الملك فى التصويب تفوق أى مستوى رياضى معتاد، بالإضافة إلى ما عرف عن ھذا الفرعون من شجاعة نادرة، ومقدرة فائقة فى مجا ل التجديف، وجسارته البالغة كفارس مقدام. وبالقطع يدل ذلك أبلغ دلالة على سماته وخصائصه الملكیة الرفیعة المستوى. وھكذا يصور لنا أحد المشاھد التى ترجع إلى الأسرة الخامسة والعشرين، فى تلك الفترة التى كانت "عابدة الإله أمون" تمارس بعض الامتیازات الملكیة، إحداھن ممثلة فوق العتب العلوى لباب مبنى "طھرقا " عند"بحیرة الكرنك" ( 690 - 664 ) وھى ترفع قوسھا ناحیة الأھداف الأربعة المسجلة باسم البلاد التى كان الفرعون قد أدرجھا فى خطته الملكیة لإخضاعھا. وھذه البلاد ھى : النوبة، لیبیا، آسیا، مصر العلیا والسفلى. وتحدد الأسطورة قائلة: أن "كاھنة أمون، كانت تصوب سھامھا نحو الجنوب، والشمال، والشرق والغرب". وفى نفس الحین، فمن خلال إحدى الصیغ السحرية الأربع، يقول رع: "لقد تمرد أولادى على وثارت قلوبھم ضدى.
ومن ھذا المنطلق يمكن أن نفسر أيضا بعض المشاھد الممثلة لتلك المذبحة الشعائرية حیث يصور الفرعون وھو يصرع أربعة رجال راكعین أمامه. إنھم يجسدون المصريین، والنوبیین، والآسیويین واللیبیین، أى كافة الأجناس البشرية المنبثقة من الإرادة الإلھیة، عند بداية الخلق . وفى مشھد موازى لذلك الذى يصور "العابدة الإلھیة " رامیة السھام، نرى الملك "طھرقا "، وھو يقوم بواسطة مقمعة ضخمة على ھیئة فرع نبات البردى بضرب أربع كرات فخارية لیطلقھا، على التوالى : "نحو الجنوب، والشمال، والغرب والشرق". وخلال ذلك، يقوم أيضا بالعدو نحو ربوة أوزيريس.
وعلى ما يبدو ان ھذا المشھد، يقدم، من اجل أمون، عرضا لشعیرة واقیة أقرت بھا العديد من المصادر النصیة. وھى تھدف خاصة: إلى تحقیق وتأكید حماية أوزيريس المعرض دائما لشرور "ست " وھجماته. وتعمل التعاويذ السحرية التى تتلى أربع مرات فوق كل من الكرات الفخارية على استنزال أبشع أنواع العذاب علیه.
وفى نھاية الأمر تحتم الضرورة على الملك وعلى "شري كته" العابدة الإلھیة لأن يعملا معا على تدمیر وإھلاك القوى المعادية. ومن أجل ذلك، فعبیھما أن يظھرا العالم منھا. وبذا، يساعدان، فى آن واحد، على تحقیق النصر للنظام الإلھى وحمايتھا الشخصیة؛ وھكذا، يعم الھناء على الجمیع .
وعندئذ أصبح التطابق والتماثل كاملا بین الفرعون والإله، الذى حضر مؤزرا بالنصر من خلال "الطرقات الأربع" وقد انقشعت عنھا كافة المخاطر والأھوال. ونفس ھذا التضامن والتآزر يبدو واضحا تماما فیما بین الملك ورعاياه. فالجدير بالذكر ھنا أن الممارسات السحرية ترتكز أساسا على مبدأ التماثل الكامل بین عناصر الكون.ومھما تنوعت طبیعة الأعداء؛ سواء كانوا أعداء من الجنس البشرى مناوئین وثائرين أو قوى ضارة خفیة، فمما لا شك فیه أن خطورتھم تنال من التناسق والتناغم القائم . ولذا، فإن الأعمال التى يؤديھا الفرعون ھنا تتشابه تماما مع تلك التى يقوم بھا الساحر أيضا.
_________
الفرعون أسرار السلطة
تألیف: مارى آنج بونیم
آنى فورجو
ترجمة: فاطمة عبد الله محمود
مراجعة وتقديم: د.محمود ماھر طه
تألیف: مارى آنج بونیم
آنى فورجو
ترجمة: فاطمة عبد الله محمود
مراجعة وتقديم: د.محمود ماھر طه
